٣
شرف الانتساب إلى مذهب السلف،
وجوانب الافتراق مع ما يسمى بالسلفية الجهادية والحزبية
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
المحور الأول
شرف الانتساب إلى مذهب السلف
أولا: نشأة التسمية بالسلفية.
فالمسلمون الأوَّلون كانوا على الإسلام الصحيح قولًا وعملًا وسلوكًا وأخلاقًا لم يَدِبَّ فيهم الخلافُ العقديُّ والطائفيُّ، لذلك سُمُّوا بالمسلمين تمييزًا لهم عن أصحابالملل الأخرى من اليهود والنصارى والصابئة والمشركين، فكان معنى قوله تعالى: ﴿هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ﴾ [الحج: ٧٨] ينطبق عليهم اسمًا ومسمًّى، قلبًا وقالبًا، ظاهرًا وباطنًا، لأنهم كانوا على الإسلام الذي شرعه الله لعباده مجرَّدًا عن الشركيات والبدعيات، وخاليًا من الحوادث والمنكرات، في العقيـدة والمنهج والفرعيات، فلم توجَد مسوِّغاتٌ حاجيةٌ إلى اتِّخاذ بديـلٍ عن التسمية بالمسلمين لأنهم كانـوا يمثِّلون الإسلامَ بحقٍّ.
لكن بعد ظهور الاختلافات العقدية والانحرافات السلوكية بين عموم المسلمين تمخَّض عنها وجود فِرَقٍ مختلفةٍ وطوائفَ عقديةٍ متناحرةٍ من الخوارج والشيعة والقدرية والجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرِهم، كلٌّ منها تدَّعي الحقَّ وأنها على الهدى والسيرَ على نهج الكتاب والسنَّة، وترمي غيرَها بالزيغ والضلال والانحراف عن سواء السبيل، مع أنها ـ جميعًا ـ تفتقر إلى الاتِّصاف بالوصف الذي بيَّنه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مخبرًا أمَّتَه عن حال هذه الفِرَق فقال: «تَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً»، قَالُوا: «وَمَا تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟» قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»(١)، فكان جوابه صلَّى الله عليه وسلَّم منصبًّا على تعيين الوصف دون الموصوف، ذلك الوصف الذي يُفْصِح عن دلالةٍ واضحةٍ في أنَّ النجاة إنـما تعمُّ كلَّ من اتَّصف بأوصاف الفرقة الناجية إلى قيام الساعة، وليست قاصرةَ الاختصاص بمن تقدَّم، بدليل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»(٢).
ومنه يتبيَّن بوضوحٍ أنَّ كلَّ متأخِّرٍ عن الحقبة الزمنية التاريخية المختصَّة بأهل القرون المفضَّلة الواردة في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»(٣) وهي زمن السلف الصالح، والتزم مذهبَهم ومنهجهم في الاعتقاد والعمل الفقهيِّ يكون سلفيًّا ويُطْلَق عليه هذه التسميةُ لالتزامه باتِّباع السلف الصالح، ويُطْلَق عليه: «سنيٌّ من أهل السنَّة والجماعة» لالتزامه بالسنَّة ومجانبته للبدعة، ويُطْلَق عليه: «أثريٌّ» أي: من أهل الحديث والأثر لاعتنائه بالحديث النبويِّ روايةً ودرايةً وتطبيقًا وعملًا، وسلوكِه لهديه صلَّى الله عليه وسلَّم ظاهرًا وباطنًا واشتغالِه بآثار الصحابة رضي الله عنهم تمييزًا وفهمًا واحتجاجًا، كما يوصف بالغريب لأنه يَصلح إذا فسد الناس لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا، ثُمَّ يَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» قِيلَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟» قَالَ: «الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»(٤)، وفي حديثٍ آخر: «أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ»(٥)، وإنما يَصْلُحُ لأنه اتَّصف بالوصف المعيِّن للفرقة الناجية في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا أَنَا عَلَيْهِ اليَوْمَ وَأَصْحَابِي»(٦).
والتسمية بالسلفية لا تضادُّ التسمياتِ الأخرى ولا تخالفها كتسمية «أهل السنَّة والجماعة» و«الفرقة الناجية» و«أنصار السنَّة»، لأنَّ ذلك من باب اختلاف التنوُّع والمسمَّى واحدٌ والمعنى أيضًا، وهو التمسُّك بالكتاب والسنَّة وفق فهم سلف الأمة.
قال الحافظ ابن رجبٍ ـ رحمه الله ـ: «وأمَّا فتنةُ الشبـهاتِ والأهواء المضلَّة فبسببها تفرَّق أهلُ القبلة، وصاروا شِيَعًا وكفَّر بعضهم بعضًا، وصاروا أعداءً وفِرَقًا وأحزابًا بعد أن كانوا إخوانًا، قلوبُهم على قلب رجلٍ واحدٍ، فلم ينجُ من هذه الفِرَق إلَّا الفرقةُ الواحدة الناجية، وهم المذكورون في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَىالحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»(٧)، وهُم في آخر الزمان الغرباءُ المذكورون في هذه الأحاديث: «الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»(٨)، وهم «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنَ السُّنَّةِ»(٩)، وهم «الَّذِينَ يَفِرُّونَ بِدِينِهِمْ مِنَ الفِتَنِ»(١٠)، وهُمُ «النُّزَّاعُ مِنَ القَبَائِلِ»(١١)، لأنهم قلُّوا فلا يوجَدُ في كلِّ قبيلةٍ منهم إلَّا الواحدُ والاثنان، وقد لا يوجَد في بعض القبائل منهم أحدٌ، كما كان الداخلون إلى الإسلام في أوَّل الأمر كذلك، وبهذا فسَّر الأئمَّة هذا الحديث.
قال الأوزاعيُّ في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ»(١٢): «أَمَا إِنَّه ما يذهبُ الإسلامُ ولكِنْ يَذْهَبُ أهلُ السنَّة حتى ما يَبقى في البلد منهم إلَّا رجلٌ واحدٌ».
ولهذا المعنى يوجَد في كلام السلف كثيرًا مدحُ السنَّة ووصفُها بالغربة ووصفُ أهلها بالقلَّة، فكان الحسن البصريُّ ـ رحمه الله ـ يقول لأصحابه: «يا أهل السنَّة! ترفَّقوا ـ رحمكم الله ـ فإنَّكم من أقلِّ الناس»(١٣).
وقال يونسُ بنُ عُبَيْدٍ: «ليس شيءٌ أغربَ من السنَّةِ، وأغربُ منها مَن يَعرفُها»(١٤).
ورُوي عنه أنه قال: «أصبح من إذا عُرِّف السنَّةَ فعرفها غريبًا، وأغربُ منه من يعرِّفها»(١٥).
وعن سفيان الثوريِّ قال: «استوصُوا بأهل السنَّة خيرًا فإنهم غُرَباء»(١٦).
ومرادُ هؤلاء الأئمَّة بالسنَّة: طريقةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم التي كان هو وأصحابُه عليها، السالمةُ من الشبهات والشهوات، ولهذا كان الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ يقول: «أهلُ السنَّة من عَرَفَ ما يدخل بطنَه من حلالٍ»(١٧).
وذلك لأنَّ أكْلَ الحلال من أعظم خِصال السنَّة التي كان عليها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه رضي الله عنهم.
ثمَّ صار ـ في عُرف كثيرٍ من العلماء المتأخِّرين من أهل الحديث وغيرهم ـ السنَّةُ عبارةً عمَّا سَلِمَ من الشبهات في الاعتقادات، خاصَّةً في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكُتُبه ورُسُلِه واليوم الآخر، وكذلك مسائل القدر وفضائل الصحابة، وصنَّفوا في هذا العلم تصانيف سمَّوها كُتُبَ السنَّة، وإنما خَصُّوا هذا العلمَ باسم السنَّة لأنَّ خَطَرَه عظيمٌ والمخالفَ فيه على شفا هلكةٍ.
وأمَّا السنَّةُ الكاملةُ فهي الطريقة السالمة من الشبهات والشهوات كما قال الحسنُ ويونسُ بنُ عُبَيْدٍ وسُفيانُ والفُضَيْلُ وغيرُهم، ولهذا وُصِفَ أهلُها بالغربة في آخر الزمان لقلَّتهم وعِزَّتهم فيه»(١٨) اﻫ.
ثانيا: ترادف ألقاب السلفية واتفاق معناها.
هذا، وللسلفية ألقابٌ وأسماءٌ يُعْرَفون بها تنصبُّ على معنًى واحدٍ، فهي تتَّفقُ ولا تختلفُ، وتأتلفُ ولا تنتقضُ، قال عنها بكر أبو زيد ـ رحمه الله ـ: «إنها ألقابٌ: منها ما هو ثابتٌ بالسنَّة الصحيحة، ومنها ما لم يَبْرُزْ إلَّا في مواجهة مناهجِ أهلِ الأهواء والفِرَق الضالَّة لردِّ بدعتهم والتمييزِ عنهم وإبعاد الخُلطةِ بهم ولمنابذتهم، فلمَّا ظهرت البدعة تميَّزوا بالسنَّة، ولـمَّا حُكِّم الرأيُ تميَّزوا بالحديث والأثر، ولـمَّا فَشَتِ البدعُ والأهواء في الخُلُوف تميَّزوا بهديِ السلف»(١٩).
قلت: ولذلك لَـمَّا سئل الإمام مالكٌ ـ رحمه الله ـ: «مَن أهل السنَّة؟» قال: «أهل السنَّة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرَفون به، لا جهميٌّ ولا قدريٌّ ولا رافضيٌّ»(٢٠)، ومراده: أنَّ أهل السنَّة التزموا الأصلَ الذي كان عليه رسـول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه، وبَقُـوا متمسِّكين بوصيَّته صلَّى الله عليه وسلَّم من غير انتسابٍ إلى شخصٍ أو جماعـةٍ، ومن هنا يُدْرَك أنَّ سبب هذه التسمية إنما نشأت بعد الفتنة، عند بداية ظهور الفِرَقِ الدينية، وقد أشار إلى ذلك ابن سيرين ـ رحمه الله ـ بقوله: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلمَّا وقعت الفتنة؛ قالوا: سَمُّوا لنا رجالكم! فيُنظر إلى أهل السنَّة فيُؤخَذ حديثُهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يُؤخذ حديثهم»(٢١).
وبهذا يُعْلَم أنَّ السلفية نسبةٌ إلى السلف الصالح الذي لا يُطْلَق على مرحلة السبق الزمنيِّ فحَسْبُ، بل هو اصطلاحٌ جامعٌ لمعانٍ متكاملةٍ تُطْلَق ـ من جهةٍ ـ للدلالة على منهج السلف الصالح في تلقِّي الإسلام وفهمِه والعمل به، كما تُطْلَق ـ من جهةٍ أخرى ـ للدلالة على مَن حافظ على سلامة العقيدة واتِّباعِ التشريع والعبادة والعمل بها وَفْقَ ما كان عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه من التمسُّك بالوحي: الكتـاب والسنَّة وتقديمِهما على ما سواهما، والعملِ على مقتضى فهم الصحابة رضي الله عنهم ومن يوالونهم من القرون المفضَّلة قبل أن يحصل الاختلاف والافتراق من أهل الفِرَق والطوائـف وأصحاب المذاهب والنِّحَل الأخرى التي ظهرت وانتشرت في مختلف البلدان والأقطار من الرقعة الإسلامية الكبرى، ولهذا كان الانتساب إلى مذهب السلف ـ بلا شكٍّ ـ اعتزازًا وشرفًا.
وأكَّد ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ هذا المعنى بقوله: «لا عيبَ على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قَبولُ ذلك منه بالاتِّفاق، فإنَّ مذهب السلف لا يكون إلَّا حقًّا»(٢٢).
ثالثا: دوافع العدول عن التسمي بـ «أهل السنة والجماعة» إلى «السلفية».
هذا، والمعلوم أنَّ كثيرًا من الفِرَق الضالَّة انتحلت اسمَ أهل السنَّة والجماعة حتى أصبح يُطْلَق على الأشاعرة والماتريدية وغيرِهم، فتوسَّع مصطلح أهل السنَّة إلى أن أصبح فضفاضًا ينتسب إليه من عُرفوا بانحرافٍ في أصول العقيدة والصفات الإلهية ومسائل الإيمان على أنهم أهلُ الحقِّ المبين، ويَرْمُون غيرهم بالضلال المبين، وضمن هذه الحقيقة قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «فكثيرٌ من النـاس يُخْبِر عن هذه الفِرَق بحكم الظنِّ والهوى، فيجعلُ طائفتَه والمنتسبةَ إلى متبوعِه المواليةَ له هُمْ أهلَ السنَّة والجماعة، ويجعلُ من خالفها أهلَ البدع، وهذا ضلالٌ مبينٌ، فإنَّ أهل الحقِّ والسنَّة لا يكون متبوعُهم إلَّا رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم»(٢٣).
لأجل ذلك بات ضروريًّا العدولُ عن مصطلح «أهل السنَّة والجماعة» إلى استعمال مصطلح «السلفية» للدلالة على ما تتَّصف به «الفرقة الناجية» أو «المنصورة» أو «الغرباء» لتمييزها عن الطوائفِ المنحرفةِ المنتسبةِ إليهم، فكانت ـ عندئذٍ ـ التسميةُ بمصطلح «السـلفية» حائلةً عن انتساب الطوائف المشهورة بالبدع والأهواء إليها، ومانعةً من اتِّخاذ مذهب السلف شعارًا لهم.
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «فالمقصودُ هنا: أنَّ المشهورين من الطوائف ـ بين أهل السنَّة والجماعة العامَّة ـ بالبدعة ليسوا منتحلين للسلف، بل أشهرُ الطوائف بالبدعة الرافضةُ، حتى إنَّ العامَّة لا تَعرفُ من شعائرِ البِدَع إلَّا الرَّفْضَ، والسنيُّ في اصطلاحهم من لا يكون رافضيًّا، وذلك لأنهم أكثرُ مخالفةً للأحاديث النبوية ولمعاني القرآن، وأكثرُ قدحًا في سلف الأمَّة وأئمَّتها، وطعنًا في جمهور الأمَّة من جميع الطوائف، فلمَّا كانوا أبعدَ عن متابعة السلف كانوا أشهرَ بالبدعة، فعُلم أنَّ شعار أهل البدع: هو تركُ انتحال اتِّباع السلف، ولهذا قال الإمام أحمدُ في رسالة عَبْدُوسِ بنِ مالكٍ: «أصول السنَّةـ عندنا ـ التمسُّكُ بما كان عليه أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم»، وأمَّا متكلِّمة أهل الإثبات من الكُلَّابية والكرَّامية والأشعرية مع الفقهاء والصوفية وأهل الحديث فهؤلاء ـ في الجملة ـ لا يطعنون في السلف، بل قد يوافقونهم في أكثر جُمَل مقالاتهم، لكِنْ كلُّ من كان بالحديث من هؤلاء أعلمَ كان بمذهب السلف أعلمَ وله أتبعَ، وإنما يوجد تعظيـم السلف عند كلِّ طائفةٍ بقدر استنانها وقلَّة ابتداعها، أمَّا أن يكون انتحالُ السلف من شعائر أهل البدع فهذا باطلٌ قطعًا، فإنَّ ذلك غير ممكنٍ إلَّا حيث يكثر الجهلُ ويقِلُّ العلمُ»(٢٤).
هذا، ومن الخطإ البيِّن أن يتصدَّى من ليس له مَسْكَة علمٍ لهذا المذهب العريق الضاربِ جذورَه عبر الزمن إلى الصحابة الكرام ومَن تبعهم بإحسانٍ فيصف الانتماءَ إليهبالبدعة، وكما قيل: «من جهل الشيءَ عاداه» و«من تكلَّم في غير فنِّه أتى بالعجائب».
وقد تقدَّم بيان معاني ألقاب وأسماء السلف ودواعيها، وأنَّ السلفيةَ اصطلاحٌ جامعٌ للمعاني المتكاملةِ من الدين الإسلاميِّ المصفَّى من شوائب موروثات الطوائف والفِرَق المخالِفة لمنهج السلف ومِن رواسب معتقدات الحضارات القديمة والحديثة الذين جعلوا مصدرَ التلقِّي العقلَ الذي أفسدته تُرَّهات الفلاسفة وخُزَعْبَلات المناطقة وتمحُّلات المتكلِّمين ومن على شاكلتهم، المجانبين لعقيدة السلف الصالح الذين جعل الله تعالى الهدايةَ في اتِّباع سبيلهم في قوله سبحانه: ﴿فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ﴾ [البقرة: ١٣٧]، وفي قـوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ»(٢٥)، وتوعَّد سبحانه من اتَّبع غيرَ سبيلهم في قوله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥﴾ [النساء]، فدلَّ ذلك على أنَّ اتِّباعَ سبيلهم نجاةٌ والحيادَ عن سبيلهم مشاقَّةٌ وابتغاءٌ للاعوجاج عن صراط الله المستقيم.
يتبع؛؛؛؛
شرف الانتساب إلى مذهب السلف،
وجوانب الافتراق مع ما يسمى بالسلفية الجهادية والحزبية
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
المحور الأول
شرف الانتساب إلى مذهب السلف
أولا: نشأة التسمية بالسلفية.
فالمسلمون الأوَّلون كانوا على الإسلام الصحيح قولًا وعملًا وسلوكًا وأخلاقًا لم يَدِبَّ فيهم الخلافُ العقديُّ والطائفيُّ، لذلك سُمُّوا بالمسلمين تمييزًا لهم عن أصحابالملل الأخرى من اليهود والنصارى والصابئة والمشركين، فكان معنى قوله تعالى: ﴿هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ﴾ [الحج: ٧٨] ينطبق عليهم اسمًا ومسمًّى، قلبًا وقالبًا، ظاهرًا وباطنًا، لأنهم كانوا على الإسلام الذي شرعه الله لعباده مجرَّدًا عن الشركيات والبدعيات، وخاليًا من الحوادث والمنكرات، في العقيـدة والمنهج والفرعيات، فلم توجَد مسوِّغاتٌ حاجيةٌ إلى اتِّخاذ بديـلٍ عن التسمية بالمسلمين لأنهم كانـوا يمثِّلون الإسلامَ بحقٍّ.
لكن بعد ظهور الاختلافات العقدية والانحرافات السلوكية بين عموم المسلمين تمخَّض عنها وجود فِرَقٍ مختلفةٍ وطوائفَ عقديةٍ متناحرةٍ من الخوارج والشيعة والقدرية والجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرِهم، كلٌّ منها تدَّعي الحقَّ وأنها على الهدى والسيرَ على نهج الكتاب والسنَّة، وترمي غيرَها بالزيغ والضلال والانحراف عن سواء السبيل، مع أنها ـ جميعًا ـ تفتقر إلى الاتِّصاف بالوصف الذي بيَّنه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مخبرًا أمَّتَه عن حال هذه الفِرَق فقال: «تَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً»، قَالُوا: «وَمَا تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟» قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»(١)، فكان جوابه صلَّى الله عليه وسلَّم منصبًّا على تعيين الوصف دون الموصوف، ذلك الوصف الذي يُفْصِح عن دلالةٍ واضحةٍ في أنَّ النجاة إنـما تعمُّ كلَّ من اتَّصف بأوصاف الفرقة الناجية إلى قيام الساعة، وليست قاصرةَ الاختصاص بمن تقدَّم، بدليل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»(٢).
ومنه يتبيَّن بوضوحٍ أنَّ كلَّ متأخِّرٍ عن الحقبة الزمنية التاريخية المختصَّة بأهل القرون المفضَّلة الواردة في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»(٣) وهي زمن السلف الصالح، والتزم مذهبَهم ومنهجهم في الاعتقاد والعمل الفقهيِّ يكون سلفيًّا ويُطْلَق عليه هذه التسميةُ لالتزامه باتِّباع السلف الصالح، ويُطْلَق عليه: «سنيٌّ من أهل السنَّة والجماعة» لالتزامه بالسنَّة ومجانبته للبدعة، ويُطْلَق عليه: «أثريٌّ» أي: من أهل الحديث والأثر لاعتنائه بالحديث النبويِّ روايةً ودرايةً وتطبيقًا وعملًا، وسلوكِه لهديه صلَّى الله عليه وسلَّم ظاهرًا وباطنًا واشتغالِه بآثار الصحابة رضي الله عنهم تمييزًا وفهمًا واحتجاجًا، كما يوصف بالغريب لأنه يَصلح إذا فسد الناس لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا، ثُمَّ يَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» قِيلَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟» قَالَ: «الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»(٤)، وفي حديثٍ آخر: «أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ»(٥)، وإنما يَصْلُحُ لأنه اتَّصف بالوصف المعيِّن للفرقة الناجية في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا أَنَا عَلَيْهِ اليَوْمَ وَأَصْحَابِي»(٦).
والتسمية بالسلفية لا تضادُّ التسمياتِ الأخرى ولا تخالفها كتسمية «أهل السنَّة والجماعة» و«الفرقة الناجية» و«أنصار السنَّة»، لأنَّ ذلك من باب اختلاف التنوُّع والمسمَّى واحدٌ والمعنى أيضًا، وهو التمسُّك بالكتاب والسنَّة وفق فهم سلف الأمة.
قال الحافظ ابن رجبٍ ـ رحمه الله ـ: «وأمَّا فتنةُ الشبـهاتِ والأهواء المضلَّة فبسببها تفرَّق أهلُ القبلة، وصاروا شِيَعًا وكفَّر بعضهم بعضًا، وصاروا أعداءً وفِرَقًا وأحزابًا بعد أن كانوا إخوانًا، قلوبُهم على قلب رجلٍ واحدٍ، فلم ينجُ من هذه الفِرَق إلَّا الفرقةُ الواحدة الناجية، وهم المذكورون في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَىالحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»(٧)، وهُم في آخر الزمان الغرباءُ المذكورون في هذه الأحاديث: «الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»(٨)، وهم «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنَ السُّنَّةِ»(٩)، وهم «الَّذِينَ يَفِرُّونَ بِدِينِهِمْ مِنَ الفِتَنِ»(١٠)، وهُمُ «النُّزَّاعُ مِنَ القَبَائِلِ»(١١)، لأنهم قلُّوا فلا يوجَدُ في كلِّ قبيلةٍ منهم إلَّا الواحدُ والاثنان، وقد لا يوجَد في بعض القبائل منهم أحدٌ، كما كان الداخلون إلى الإسلام في أوَّل الأمر كذلك، وبهذا فسَّر الأئمَّة هذا الحديث.
قال الأوزاعيُّ في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ»(١٢): «أَمَا إِنَّه ما يذهبُ الإسلامُ ولكِنْ يَذْهَبُ أهلُ السنَّة حتى ما يَبقى في البلد منهم إلَّا رجلٌ واحدٌ».
ولهذا المعنى يوجَد في كلام السلف كثيرًا مدحُ السنَّة ووصفُها بالغربة ووصفُ أهلها بالقلَّة، فكان الحسن البصريُّ ـ رحمه الله ـ يقول لأصحابه: «يا أهل السنَّة! ترفَّقوا ـ رحمكم الله ـ فإنَّكم من أقلِّ الناس»(١٣).
وقال يونسُ بنُ عُبَيْدٍ: «ليس شيءٌ أغربَ من السنَّةِ، وأغربُ منها مَن يَعرفُها»(١٤).
ورُوي عنه أنه قال: «أصبح من إذا عُرِّف السنَّةَ فعرفها غريبًا، وأغربُ منه من يعرِّفها»(١٥).
وعن سفيان الثوريِّ قال: «استوصُوا بأهل السنَّة خيرًا فإنهم غُرَباء»(١٦).
ومرادُ هؤلاء الأئمَّة بالسنَّة: طريقةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم التي كان هو وأصحابُه عليها، السالمةُ من الشبهات والشهوات، ولهذا كان الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ يقول: «أهلُ السنَّة من عَرَفَ ما يدخل بطنَه من حلالٍ»(١٧).
وذلك لأنَّ أكْلَ الحلال من أعظم خِصال السنَّة التي كان عليها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه رضي الله عنهم.
ثمَّ صار ـ في عُرف كثيرٍ من العلماء المتأخِّرين من أهل الحديث وغيرهم ـ السنَّةُ عبارةً عمَّا سَلِمَ من الشبهات في الاعتقادات، خاصَّةً في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكُتُبه ورُسُلِه واليوم الآخر، وكذلك مسائل القدر وفضائل الصحابة، وصنَّفوا في هذا العلم تصانيف سمَّوها كُتُبَ السنَّة، وإنما خَصُّوا هذا العلمَ باسم السنَّة لأنَّ خَطَرَه عظيمٌ والمخالفَ فيه على شفا هلكةٍ.
وأمَّا السنَّةُ الكاملةُ فهي الطريقة السالمة من الشبهات والشهوات كما قال الحسنُ ويونسُ بنُ عُبَيْدٍ وسُفيانُ والفُضَيْلُ وغيرُهم، ولهذا وُصِفَ أهلُها بالغربة في آخر الزمان لقلَّتهم وعِزَّتهم فيه»(١٨) اﻫ.
ثانيا: ترادف ألقاب السلفية واتفاق معناها.
هذا، وللسلفية ألقابٌ وأسماءٌ يُعْرَفون بها تنصبُّ على معنًى واحدٍ، فهي تتَّفقُ ولا تختلفُ، وتأتلفُ ولا تنتقضُ، قال عنها بكر أبو زيد ـ رحمه الله ـ: «إنها ألقابٌ: منها ما هو ثابتٌ بالسنَّة الصحيحة، ومنها ما لم يَبْرُزْ إلَّا في مواجهة مناهجِ أهلِ الأهواء والفِرَق الضالَّة لردِّ بدعتهم والتمييزِ عنهم وإبعاد الخُلطةِ بهم ولمنابذتهم، فلمَّا ظهرت البدعة تميَّزوا بالسنَّة، ولـمَّا حُكِّم الرأيُ تميَّزوا بالحديث والأثر، ولـمَّا فَشَتِ البدعُ والأهواء في الخُلُوف تميَّزوا بهديِ السلف»(١٩).
قلت: ولذلك لَـمَّا سئل الإمام مالكٌ ـ رحمه الله ـ: «مَن أهل السنَّة؟» قال: «أهل السنَّة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرَفون به، لا جهميٌّ ولا قدريٌّ ولا رافضيٌّ»(٢٠)، ومراده: أنَّ أهل السنَّة التزموا الأصلَ الذي كان عليه رسـول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه، وبَقُـوا متمسِّكين بوصيَّته صلَّى الله عليه وسلَّم من غير انتسابٍ إلى شخصٍ أو جماعـةٍ، ومن هنا يُدْرَك أنَّ سبب هذه التسمية إنما نشأت بعد الفتنة، عند بداية ظهور الفِرَقِ الدينية، وقد أشار إلى ذلك ابن سيرين ـ رحمه الله ـ بقوله: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلمَّا وقعت الفتنة؛ قالوا: سَمُّوا لنا رجالكم! فيُنظر إلى أهل السنَّة فيُؤخَذ حديثُهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يُؤخذ حديثهم»(٢١).
وبهذا يُعْلَم أنَّ السلفية نسبةٌ إلى السلف الصالح الذي لا يُطْلَق على مرحلة السبق الزمنيِّ فحَسْبُ، بل هو اصطلاحٌ جامعٌ لمعانٍ متكاملةٍ تُطْلَق ـ من جهةٍ ـ للدلالة على منهج السلف الصالح في تلقِّي الإسلام وفهمِه والعمل به، كما تُطْلَق ـ من جهةٍ أخرى ـ للدلالة على مَن حافظ على سلامة العقيدة واتِّباعِ التشريع والعبادة والعمل بها وَفْقَ ما كان عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه من التمسُّك بالوحي: الكتـاب والسنَّة وتقديمِهما على ما سواهما، والعملِ على مقتضى فهم الصحابة رضي الله عنهم ومن يوالونهم من القرون المفضَّلة قبل أن يحصل الاختلاف والافتراق من أهل الفِرَق والطوائـف وأصحاب المذاهب والنِّحَل الأخرى التي ظهرت وانتشرت في مختلف البلدان والأقطار من الرقعة الإسلامية الكبرى، ولهذا كان الانتساب إلى مذهب السلف ـ بلا شكٍّ ـ اعتزازًا وشرفًا.
وأكَّد ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ هذا المعنى بقوله: «لا عيبَ على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قَبولُ ذلك منه بالاتِّفاق، فإنَّ مذهب السلف لا يكون إلَّا حقًّا»(٢٢).
ثالثا: دوافع العدول عن التسمي بـ «أهل السنة والجماعة» إلى «السلفية».
هذا، والمعلوم أنَّ كثيرًا من الفِرَق الضالَّة انتحلت اسمَ أهل السنَّة والجماعة حتى أصبح يُطْلَق على الأشاعرة والماتريدية وغيرِهم، فتوسَّع مصطلح أهل السنَّة إلى أن أصبح فضفاضًا ينتسب إليه من عُرفوا بانحرافٍ في أصول العقيدة والصفات الإلهية ومسائل الإيمان على أنهم أهلُ الحقِّ المبين، ويَرْمُون غيرهم بالضلال المبين، وضمن هذه الحقيقة قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «فكثيرٌ من النـاس يُخْبِر عن هذه الفِرَق بحكم الظنِّ والهوى، فيجعلُ طائفتَه والمنتسبةَ إلى متبوعِه المواليةَ له هُمْ أهلَ السنَّة والجماعة، ويجعلُ من خالفها أهلَ البدع، وهذا ضلالٌ مبينٌ، فإنَّ أهل الحقِّ والسنَّة لا يكون متبوعُهم إلَّا رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم»(٢٣).
لأجل ذلك بات ضروريًّا العدولُ عن مصطلح «أهل السنَّة والجماعة» إلى استعمال مصطلح «السلفية» للدلالة على ما تتَّصف به «الفرقة الناجية» أو «المنصورة» أو «الغرباء» لتمييزها عن الطوائفِ المنحرفةِ المنتسبةِ إليهم، فكانت ـ عندئذٍ ـ التسميةُ بمصطلح «السـلفية» حائلةً عن انتساب الطوائف المشهورة بالبدع والأهواء إليها، ومانعةً من اتِّخاذ مذهب السلف شعارًا لهم.
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «فالمقصودُ هنا: أنَّ المشهورين من الطوائف ـ بين أهل السنَّة والجماعة العامَّة ـ بالبدعة ليسوا منتحلين للسلف، بل أشهرُ الطوائف بالبدعة الرافضةُ، حتى إنَّ العامَّة لا تَعرفُ من شعائرِ البِدَع إلَّا الرَّفْضَ، والسنيُّ في اصطلاحهم من لا يكون رافضيًّا، وذلك لأنهم أكثرُ مخالفةً للأحاديث النبوية ولمعاني القرآن، وأكثرُ قدحًا في سلف الأمَّة وأئمَّتها، وطعنًا في جمهور الأمَّة من جميع الطوائف، فلمَّا كانوا أبعدَ عن متابعة السلف كانوا أشهرَ بالبدعة، فعُلم أنَّ شعار أهل البدع: هو تركُ انتحال اتِّباع السلف، ولهذا قال الإمام أحمدُ في رسالة عَبْدُوسِ بنِ مالكٍ: «أصول السنَّةـ عندنا ـ التمسُّكُ بما كان عليه أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم»، وأمَّا متكلِّمة أهل الإثبات من الكُلَّابية والكرَّامية والأشعرية مع الفقهاء والصوفية وأهل الحديث فهؤلاء ـ في الجملة ـ لا يطعنون في السلف، بل قد يوافقونهم في أكثر جُمَل مقالاتهم، لكِنْ كلُّ من كان بالحديث من هؤلاء أعلمَ كان بمذهب السلف أعلمَ وله أتبعَ، وإنما يوجد تعظيـم السلف عند كلِّ طائفةٍ بقدر استنانها وقلَّة ابتداعها، أمَّا أن يكون انتحالُ السلف من شعائر أهل البدع فهذا باطلٌ قطعًا، فإنَّ ذلك غير ممكنٍ إلَّا حيث يكثر الجهلُ ويقِلُّ العلمُ»(٢٤).
هذا، ومن الخطإ البيِّن أن يتصدَّى من ليس له مَسْكَة علمٍ لهذا المذهب العريق الضاربِ جذورَه عبر الزمن إلى الصحابة الكرام ومَن تبعهم بإحسانٍ فيصف الانتماءَ إليهبالبدعة، وكما قيل: «من جهل الشيءَ عاداه» و«من تكلَّم في غير فنِّه أتى بالعجائب».
وقد تقدَّم بيان معاني ألقاب وأسماء السلف ودواعيها، وأنَّ السلفيةَ اصطلاحٌ جامعٌ للمعاني المتكاملةِ من الدين الإسلاميِّ المصفَّى من شوائب موروثات الطوائف والفِرَق المخالِفة لمنهج السلف ومِن رواسب معتقدات الحضارات القديمة والحديثة الذين جعلوا مصدرَ التلقِّي العقلَ الذي أفسدته تُرَّهات الفلاسفة وخُزَعْبَلات المناطقة وتمحُّلات المتكلِّمين ومن على شاكلتهم، المجانبين لعقيدة السلف الصالح الذين جعل الله تعالى الهدايةَ في اتِّباع سبيلهم في قوله سبحانه: ﴿فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ﴾ [البقرة: ١٣٧]، وفي قـوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ»(٢٥)، وتوعَّد سبحانه من اتَّبع غيرَ سبيلهم في قوله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥﴾ [النساء]، فدلَّ ذلك على أنَّ اتِّباعَ سبيلهم نجاةٌ والحيادَ عن سبيلهم مشاقَّةٌ وابتغاءٌ للاعوجاج عن صراط الله المستقيم.
يتبع؛؛؛؛